الخميس، 13 نوفمبر 2014

مقال : لمن نرفع القبعة (أمامة اللواتي )

لمن نرفع القبعة ؟


في طفولتنا التي تبدو وكأنها من عمق ماضي عتيق، حيث لم يكن للهاتف النقال والكمبيوتر أثرا يُرى، وحيث كانت المحطات التلفازية تقتصر على قناة أرض أرض إن صح التعبير، نتابع فيها برامج المصارعة مجبرين في ليالي السبت، ونحسب الدقائق حتى يحين موعد برامجنا الكارتونية المفضلة في أوقات محددة ككتابٍ موقوت، إن  تخلفنا عنها قبعنا واجمين مكتئبين حتى إنتظار اليوم التالي، وحيث نشأت فتاةٌ صغيرة في سورٍ خاص ، يقع على كورنيش مطرح الذي يضجّ بروائح البحر والنوارس والبهارات ، والبخور المتصاعد من شرف المنازل الكورنيشية المتفردة في طرازها المعماري، كان لا بد للخيال أن يبحث عن طريق.

كان للخيال وقتها طرائق عّدة تبدل بها المقام اليوم، لكن الطريقة التي ما زالت حية رغم قدمها وسلطة مالكها هي القراءة. كانت مكتبة المعرفة على كورنيش مطرح المنبع الثقافي الوحيد الذي كنا نلامس فيه الورق المطبوع بألوانٍ ورسومٍ يدوية، ونطّلع فيها على كل الحكايات الغريبة من تراث غربي وعربي، كانت مكتبة المعرفة بالنسبة لي ذاكرة طفولة مخزنة في عمق الامتنان، وحين أُغلقت المكتبة واُستبدلت بمطعمٍ سياحي جميل يمتلئ بالسياح الأجانب، شعرتُ بألمٍ في ذاكرتي ولا أنكر أن وقوفي يومها عند مكتبة المعرفة كان كوقوف شاعر جاهلي على أطلال حبيبته الراحلة. شعرتُ أن باباً من أبواب طفولتي قد أُغلق.

لكن التعلق بالمكتبة الوحيدة في المنطقة لم يكن هو البداية، بل كان الشرارة التي تبقيني أحترق لقراءة المزيد، فمن المبالغ البسيطة التي كنت أجمعها استطعت أن أكّون مكتبتي الأولى، وحينها وقفتُ حاملةً قصصي تعلوها سلسة المكتبة الخضراء للأطفال، وباحتجاجٍ قلت لأمي : ليس عندي مكان أضع فيه قصصي، لابد أن يكون لي ركني الخاص. وحينها لم أتوقع أن تمنحني أمي أفضل ركن في مكتبة والدي، وهنا بدأت مطامعي تزداد ، حيث كنت أنظر إلى كل الرفوف التي تحتلها المئات من كتب أبي والرف الوحيد الذي يضم ربما عشرين قصة في ركني، والكثير من الأفكار الاستيطانية راودتني دون شك ، لكن لا بد من القول أن منافسة شريفة قد بدأت هنا بحق !

************

لا أعرف متى كانت البداية، ومتى كان اللقاء الأول الذي كان نظرةً فشغفاً فارتحالاً في كينونة الكلمة والمعنى وشعوراً بموسيقى دائمة تبدل معزوفاتها في عقلك بشكل تلقائي كأي مشغل أقراص حديث، لكنها بلا شك لن تكون أبعد من مكتبة والدي التي كانت زاخرة بالكتب الدينية . فقد كان والدي كجامع التحف الأثرية تأخذهُ قدماه إلى حيث يرى ظل كتاب، وكيف يمكن للمرء في هذه الحالة ألا يتابع الشخوص إذا كان الوالد يتبع حتى الظلال ؟ في تلك المرحلة العمرية كانت الكتب القابعة في مكتبته تبدو مثل أهرامات عملاقة، عصيّة على الفهم، لكن شغفي بالقراءة جعلني اقرأ كل ما في هذه المكتبة، ويوم أن التقطت يداي كتاب فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر ، حزنت أني لم أفهم منه الكثير وقتئذ، ولكني صممتُ على أن أعود إليه حين أتخطى تلك السنة الدراسية وانتقلُ إلى مرحلة أعلى، وكنت أقول سأكبر سنة وسأفهم أكثر !

ومع الإقبال على قراءة كتب الدين والأخلاق والعقائد والمجادلات، أصبحت اللغة تجري على فمي سهلة منسابة، ووجدت نفسي أقوم بكتابة الخواطر التي كانت تنال اعجاب صديقاتي، ومن ثم بدأت أكتب للمقدمات الاذاعية في المدرسة وأفوز في المسابقات المدرسية لكتابة أفضل مقدمة إذاعية، ويوما قالت لي مدرستي : تابعتُ ما تكتبين في دفاتر صديقاتك من إهداءات، أنت لا تكتبين الكلام نفسه مرتين ! وكان من الصعب في هذه الحالة على صديقتي الأثيرة أن تنقل الواجب المتأخر من دفتري ، حيث كنت أكتب الاجابة بشكل مختلف عن الموجود في الكتاب المدرسي وكانت المدرسة الفطنة تدرك ذلك وتعاتبني عتابا خفيفا.

لاحقا عرفت بطرقي الفضولية الخاصة أن والدي كان يقرأ في صباه الكتب الأدبية والبوليسية بشغفٍ واضح، ولكنه لم يكن يتركها معروضة في مكتبته الكبيرة لسببٍ غامض. وكان يوم اكتشافي أنا وأخي لخريطة سرية تدل على مخزنٍ صغير أسفل السلم في منزلنا اكتشافٌ عظيم، حيث حصلنا على عددٍ لا يُحصى من الروايات البوليسية لقصص المغامرين الخمسة ومن ثم المغامرين الثلاثة التي كانت تصدر من جمهورية مصر العربية ، وقصص أجاثا كريستي وروايات جورجي زيدان ومجلات تان تان المصورة وكان هذا أعظم كشفٍ أثري في طفولتنا، وكانت دهشتي كبيرة وسعادتي أكبر فقد كنت أهوى القصص الأدبية ولا أجد منها الكثير.

ويبدو أن العاشق يبصرُ العشاق الآخرين الذين يشاركونه في هيام نفس المحبوبة، وكان أن لاحظ والدي شغفي بقراءة القصص والروايات، وكان يريد لي أن أقرأ أدبا راقياً ، فكان أن طلب من صديق له يسافر الى بيروت ما يناسب تلك الفتاة التي تريد شيئا من وراء الأسوار، والحقيقة كان هذا الصديق موفقا في اختياره لمؤلفات جبران خليل جبران فكانت أول مجموعة أدبية قد أطارت صوابي من الفرح، كيف لا وقد جاءت إليّ خصيصا من بيروت مدينة الثقافة والمكتبات، ومن أجملُ من جبران لروحٍ تبحث عن صفاء المعرفة ونقاء الكلمة وعمق المغزى؟

*************

أصبحت المفاوضات حين كبرت تتمحور حول معرض الكتاب في مسقط الذي كان يأتي في فترات متقطعة وقتها قبل أن ينقطع تماما لسنوات ويعود للاستمرار بشكله السنوي الآن . كانت هذه المفاوضات ماكرة وباسمة للحصول على أكبر مبلغ ممكن لأشتري الكتب التي أرغب فيها، وكانت هذه المفاوضات نقطة ضعف والدي جامع التحف الأصيل من الكلمات، فكنت أحصل على مبلغ وافر ومن ثم أرافقه في كل زيارة بعد أن ينتهي المبلغ لدي طمعا في شراء المزيد، وكان هو بدوره يقتنص المزيد وتسقط كل دفاعاته أمام المكتبات وهكذا فقد كنا صيادين ماهرين وكان صيدنا وافرا وكنا نسعى نحو ذات الفرائس، لذلك لم تتوقف رحلات صيدنا مهما كانت مكلفة في تلك السنوات !

إلا أن المدد الأول كما أحاول أن أتذكر اليوم كان من جدةٍ عذبة تجيد القراءة في ذلك الوقت ، برغم أن المجتمع كان أميا في أغلبه ولم تكن المدارس شائعة ، لكن جدتي كانت تقرأ القصائد الحسينية بصوتها الحنون بجوار المنبر الحسيني وهي من قدمت لي أول عددٍ من مجلة ماجد، وهكذا تضاعفت هواياتي من القراءة الى المراسلة الى جمع الطوابع الى الكتابة بصنوفها . وكانت لي أمٌ كحمامةٍ وادعة، تجتهد حتى تكتب وتجتهد حتى تساعدني في اللوحات المدرسية فترسم معي، وكانت ذات أنامل مبدعة وهي تنتج مشغولاتها اليدوية على ماكينة خياطة ذات صوت يذكرك أنها إمرأة متوقدة، علاوة على تمتعها بذائقة أدبية تحلّق بوداعة مع الكتب والقصص الأدبية ، ولاحقا كانت تسألني باستمرار عن الروايات الجديدة التي أقتنيتُها وتقرأها بصبرٍ وتركيز وتتفاعل مع أحداثها وكأنها إحدى البطلات المنسيات في التاريخ وقد كانت كذلك بالنسبة لي.

كانت مكتبة المنزل اذا هي النبع الأهم، لكن بدورها لم تكن كافية لتشعرني بوجود الكاتب حولي ولم تكن كافية لتروي فضولي، وهنا كان دور المنبر الحسيني . فكل حسينيات السور تقع بجوار بعضها البعض وفي خطوات بسيطة من المنزل تجد نفسك في الحسينية. كانت محاضرات الرجال التي يلقيها خطيب في مسجد أو حسينية الرجال والتي نسمعها نحن النساء في حسينياتنا توسع آفاقي ، وتثبت لي أن المعرفة ليست فقط في الكتب ولكنها تأتي من الخطاب الشخصي ومن الخطباء الذين كانوا يطلعون على مصادر عدة ليقدموا للمستمع خلاصة بحثهم. ليس القصد هنا بأي حالٍ نقد الخطاب الديني فهو ليس المحور هنا، ولكن من الإنصاف القول أنه لولا المنبر الحسيني لم تكلفتُ كثيرا عناء البحث في القصص والأفكار التي كنت أسمعها من الخطيب، حيث كان يضيق الوقت أو الموضوع أحيانا من التوسع في الافكار المطروحة. لكن الاستماع الى خطباء يتصفون بأساليبهم ومناهجهم المختلفة عبر سنواتٍ متصلة في شهور محرم وصفر و رمضان يخلق في داخلك موسوعةً دينية سريعة عن الأحداث التاريخية والقضايا العقائدية والفقهية، وكانت دروس التربية الاسلامية في المدرسة بعد كل هذا تبدو لي وكأنني تجاوزتها بسنوات . لم تكن الحسينيات النسائية على نفس القدر من التفصيل والتعقيد، فقد كانت معظم النساء والجدات غير متعلمات، وكانت محاضرتهم لا تخوض في النقاشات الفلسفية أو العقائدية أو الفقهية ولكنها كانت تقتصر على الموعظة الحسنة وذكر سيرة أهل البيت والاحتفاء بمناسباتهم.

إذا كيف يمكن لروحٍ متعلقة بالقراءة ألا يكبر لديها الحس الشعري وتعشق اللحن والقصيد، وهي تستمع إلى أصوات النساء الملحنة وهن يلقين قصائدهن المرثية، ترافقهن حركة خفيفة من اليد على الفخذ تتغير ضرباتها المحكمة حسب إيقاع القصيدة ولحنها؟ لم يكن من الوارد استخدام الآلات الموسيقية في هذه المجالس المعطرة بذكر أهل البيت عليهم السلام، ولكن هذه الحركة الخفيفة كانت تشكل مع ترديد الحاضرين لمقاطع من القصيدة إيقاعا جميلا كضربات الدف، وتتركك مأسورا لمعناها الشجي وأدائها العفوي وتزرع في نفسك كل أثرٍ جميل، وتشعرك بروحانية وتواصل مع ذكر أهل البيت عليهم السلام.

***********

ماذا عن الجنود المجهولين في كل نواحي الحياة ؟ هناك من يستحقون أن نرفع القبعة لهم لدورهم الكبير في المجتمع، ولاستمرارهم ولتطويرهم ولاهتمامهم وعطائهم حتى اليوم، ثمة أناس كانوا يعملون في صمت ، يتبرعون من وقتهم وجهدهم وأموالهم. هذه الكلمات جاءت متأخرة جدا بحق مجموعة من السيدات الرائعات في نشاط التدريس المحلي بسور اللواتيا. لا يمكن أبدا أن نوفيهن حقهن فمنذ أن كنتُ في الصف الثالث الابتدائي وهذا أبعدُ ما أتذكر من بداية نشاط التدريس التطوعي وحتى تخرجي من الثانوية العامة فقد كن هؤلاء السيدات هناك ، واليوم ما زلنا يتابعن هذا العطاء بجوار أخريات مع بناتنا.

 نشاط التدريس كان عملا تطوعيا بالكامل، وكان يهدف إلى إعطائنا فكرة أعمق عن تراث أهل البيت عليهم السلام. كم تطوعن وكم عملنا هؤلاء المربيات ؟ برغم كل الظروف كن يواظبن على تدريسنا نحن البنات الصغيرات كل يوم خميس رغم أنهن أمهات عاملات. المسودات التي كانت توزع علينا كنا يتكفلن عناء طبعها وتصويرها ومتابعتها في وقت لم يكن للكمبيوتر أي وجود، ولم تكن عملية التصوير ميسرة كما هي اليوم، وفي نهاية كل فصل تدريسي كان هناك إختبارٌ لم تم تدريسه وكانت هناك جوائز جميلة توزع على المتفوقين. إذا كنا يتبرعن بالمال والجهد والوقت والطاقة مع محبة واهتمام صادقين. لم يكن التدريس خاليا من تربيةٍ وصحبةٍ أيضا، فقد كانت الرحلات ترفيهية إلى المزارع  حدثا لا يُنسى، وأذكر جليا أن مديرة مدرسة الهدى رحمها الله المربية العزيزة سعاد عبدالله كانت تتكفل في كثير من الأوقات بتوفير باص المدرسة لرحلاتنا الخاصة. وكانت المدرسات يقمن أيضا بإعداد الوجبات الضرورية للرحلة . أي روحٍ كنّ يملكنّ ؟ أي شغف ورغبة كانت تدفعهم وما زالت للبقاء في هذا النضال والاستمرار في إهتمامهم بنا دون أن يطلبن أي مقابل ؟ أي نفسٍ تمتعن بها وهن برغم مسئولياتهن الجسيمة استمعنّ إلينا وإلى مشاعرنا وأحيانا حتى مشاكل مراهقتنا التي لم نكن نصرح بها لأمهاتنا؟

أتمنى حقا أن أذكر هنا أسمائهن جميعا تقديرا لدورهم الذي لا يمكن نسيان أثره على نفسي على الأقل.  الحقيقة أن هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين أدين لهم بحبي للكتابة والقراءة، بشغفي في معرفة ما حولي، فقد أوقدوا نار المعرفة في قلبي وكان علي أن أبقيها مشتعلة، خلقوا في داخلي أمانا وسلاما فكريا يجعلني أتذكر دوما أنك لا تصنع من ذاتك شيئا دون أن تنهل من ذوات الآخرين .


أمامة اللواتي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق