البابُ يُغلَق الآن...
(1)
الآن أُغلقُ الباب...
كان يجدرُ بي غلقه عليكِ لا عنك؛
لكنه القدر حين يفرض علينا سيطرته, و يرمينا في متاهاته. و هو الذنب أيضًا.
قلتِ لي مرةً: »لا تسمح لأحد من البشر أن يحاسبك على ذنب اقترفته؛ الله أرحم«.
أتذكرين يوم ارتكبتُ ذنبكِ أول مرة؟ كنتُ عائدًا من عملي في ساعةٍ متأخرةٍ من ليلةٍ ظلماء, كنتِ تبكين مع السماء, وتجلسين منزويةً على رصيف الشارع. لم أفهم سبب وجود فتاة بعباءة و حجاب ملقى بإهمال تجلس وحيدة. أوقفتُ سيارتي جانبًا، اقتربتُ منكِ و سألتكِ: »ماذا تفعلين؟ لم لا تغادرين إلى منزلك, الوقت متأخر و السماء تمطر, من الخطر عليك أن تبقي هنا .«
نظرتِ إليّ في صمت .قلتُ: »تعالي معي, لا تخافي. كما ترين, أنا ممرض و قد أقسمت على تأدية عملي بإخلاص. سلامتك جزء من وظيفتي. ستأتين معي لنرى ما الذي يمكننا فعله في الصباح«.
نهضتِ وأنت ترتجفين, ركبتِ السيارة إلى جانبي في المقعد الأمامي. بقيتُ صامتًا أفكرُ في أمرك و لا أسمع سوى نشيج بكاءك و صوت قطرات المطر.
دخلنا إلى شقتي. تأملتُ ملامح وجهكِ. كان أنفك محمراً, وعيناك متورمتين كحبتي خوخ. أدخلتكِ إلى الغرفة المجاورة, وضعتُ أمامك قنينة الماء, والخبز, والجبن, وخرجتُ نحو غرفتي لأنام.
***
أنا لستُ أنانيًا. أصبحتِ تعرفينني جيدًا, أليس كذلك؟ في تلك الليلة الأولى و أثناء نومي، أحسستُ برموشك المبتلة, و دموعك وهي تسيل أسفل ذقني. كنتِ مستلقية إلى جانبي تبكين, وتخبئين وجهك في حضني. فتحتُ عيني يائسًا, وحاولت أن أتمالك أعصابي. سألتك, ما بك؟ فلن أتحمل مصائب أكثر مما أتحمل مع المرضى. كنتُ فظًا؛ لأنني شككت في نواياك. لم تنبسي بكلمة, ولأنك لم تكوني تعرفيني جيدًا؛ قلتُ:
»اسمعيني. أنا شابٌ من قرية بعيدة. نشأت على طاعةِ الله منذ صغري, أحفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم. دشاديشي المعلقة تلك قصيرة. عمري خمسة وعشرون عامًا, ولم ألمس إمرأة في حياتي. سأتزوج ابنة عمي حين أنتهي من تجميع المهر. هي فتاة متواضعة, أنهت المرحلة الإعدادية و ظلت في المنزل. حين نجلس على حافة الفلج, تقص علي حكاياتها البسيطة, عن الدجاجة التي لا تبيض, و عن طعنات إبرة الخياطة على طرف إبهامها. يا ابنة الناس ابتعدي عني, لا تلمسيني. لقد تربيت على الأخلاق والعفة؛ رفض أبي أن أكمل دراسة التمريض في سنتي الثالثة, حين شاهد في إحدى صفحات كتابي رسمًا لفتاة عارية, بجانبها صورة مكبرة للجهاز التناسلي. لم يفهم يومها أنني أراجع دروسي في مقرر فيزيولوجيا الإنسان؛ مزق الكتاب و منعني من العودة إلى الجامعة. ذهبتُ إلى شيخ الحارة و قبضت على يديه متوسلًا؛ كي يقنع والدي بالعدول عن قراره.
ماذا تريدين؟ ألا يمكنك التوقف عن البكاء؟ قضيت سبع سنوات في مسقط عفيفًا و شريفًا, أقضي فيها خمسة أيام ثم أعود إلي قريتي ليومين, وهكذا كل أسبوع, لا أعلم من أين أتيتِ اليوم لتحشري رأسك في حضني بكل هذه الجرأة. ابتعدي أنتِ تقتربين أكثر مما يجب أيتها الفتاة! «.
صدقيني, لو أنك اكترثتِ لحديث تلك الليلة؛ لما أحببتك ولما أحببتني, لكنك لزمتِ البقاء في حضن ابن القرية العفيف, الذي غفى معك ليهديك ساعِدَهُ وسادةً لأحزانك, فلم يصحَ ليصلي الفجر؛ حتى لا يقطع نومك.
***
يُحزنني أن تبتعدي، لكنني مُجبر على تركك تغادرين, تمامًا كعصفورتي التي امتلكتها في صغري. كانت عصفورة صغيرة, وضعتها في قفص من السعف. كبرت واستأنست ضيق المكان, تتحرك في حيزه ولا تطلب أكثر من ذلك. ذات يوم أصرّ أخي الأكبر أنْ أُطْلِقها؛ كي تعيش بحرية مع العصافير الأخريات. رفضتُ و أخبرته أنها تحبني, و حتى إن فتحت الباب لن تطير. مددت يدي إليها مناغيًا, ولم أنتبه إلى أخي الذي اندفع نحو القفص؛ ليحطمه و يحرر العصفورة قسرًا. لم تستطع المسكينة الطيران, ظلت تتخبط في الوحلِ, حتى تلقّفها القط, وتلاشت بين أنيابه.
أتعلمين؟ تغيّرت أشياء كثيرة منذ أن دخلتِ إلي حياتي. تقبَّلتُ فكرة أن تعيشي معي بعد أن أخبرتني عن حكايتك المؤلمة التي استقبلتُها كطعناتِ السكين على صدر عارٍ.كنتِ شقيةً جدًا, وكان لابد أن تتركي أثرك على كل شيء. أرغمتِني على تقصير لحيتي و إطالة دشاديشي, تقولين أنني أبدوا أكثر وسامةً بها. غيّرتِ أثاث الشقة؛ ليتناسب مع ذائقتك, استحدثتِ ركنا في زاوية الغرفة؛ ليستوعب كتبك الكثيرة.
كنتُ أقول لك: »ما الفائدة من قراءة الفتاة لكتب الفكر و الفلسفة والسياسة و البطيخ؟«
تجيبين: »الكتب تهديك الحقيقة الصادمة دون أن تمُنَّ عليك, تلك التي تجعلك تفكر أكثر مما يجب بكل ما يدور من حولك«.
فأجيبك: »أنا أقرأ, لكني لا أفكر بعيدًا عني. الحياة قصيرة بالكاد تكفي أحلامنا الصغيرة. و أنتِ إن تأملتِ حياتك جيدًا, ستعرفين سبب تعاستك وتشردك! .«
نبدأ في النقاش ثم تتعقد الأمور أكثر؛ فأخرجُ مثقلًا بالخسارة. إلا أن كل ذلك يجذبني, فأنت بطبيعتك الغريبة هذه -بالنسبة إلى شابٍ عرف النساء في قريته بشكل مختلف- كنتِ تستفزينني لمعرفتك أكثر وتزيدين من تعلّقي بك, حتى أن شقتي صارت ملاذًا, أنتظرُ انقضاء ساعات العمل بسرعة؛ حتى أعود و أجدك متمددة على الكرسي, تقرأين كتابًا بعد أن فرغتِ من إعداد الطعام, تستقبلينني بحب, تنادينني مازحة »يا زوجي« ؛ فأبلع حسرتي و ألعن شرقيّتي, ثم أبتسم بغباء.
كنتُ أكره الدموع في عينيك. حدث أن قبضت عليكِ ذات يوم متلبسة بالبكاء.
قلتُ: »زينب لماذا تبكين؟ ألست تعيشين بداية جديدة معي؟«
أجبتني بحسرة:» الجروح القديمة تلتئم ,لكنها في أعماق الروح لا تفقد وجعها. «
قلتُ: »كل الأشياء مؤقتة«.
***
الآن و أنت تبتعدين, و قبل أن يُطبِق البابُ على فم الجدار, أفكر أن أصرخ باسمك. أقولُ زينب لا ترحلي؛ فقد كنتِ الحلمَ الذي أعيشهُ هانئَا, وحدث أن أفقت منه على صفعات يد غليظة, تفوح منها رائحة عتيقة, و خيال فتاة قروية, تفك ضفائرها المخضبة بالحناء.
ها أنتِ تبتعدين, هل يمكنك سماعي؟
سامحيني؛ لكنني اخترت الحياة التي لم تُلقها الصدفةَ أمامي ورقة خاسرة ...
و الباب أغلقه الآن بإحكام. لن أتركه نصف مفتوح؛ حتى لا يخرج طيفك خلفك, فأبقى وحيدًا.
(2)
لم يعد لي مكانٌ هنا. أعلمُ أنها النهاية.
زينب التي تغادرك الآن-وفي ذاكرتها عامٌ من الحب مرَّ سريعًا كنسمةٍ دافئةٍ- تدركُ عيوبها جيدًا. حين التقتك أول مرة, و اختبئتْ في حضنك, كانت ضعيفة جدًا, هشةً كورقة خريف, وضائعةً كقطة فقدت صغارها.
ظننتَ أنني فتاة ليل؟ لا ليس كذلك, كل ما في الأمر أنني لم أجد خلاصًا سوى في حضن غريبٍ أبكي؛ فيواسيني دون أن يؤدي دور الوصي. أردتَ أن تسمع حكايتي؛ فأخبرتك عن كل شيء.
»لا أذكر من حياتي سوى العذاب. تخلت عني أمي لتتركني أعيش مع أبي و زوجاته اللاتي كان يُبدلهنّ كل فترة. درستُ الطب لسنتين بعدها أدركتُ أنني في المكان غير المناسب. ما الفائدة من علاج الجسد إذا كانت الروح عليلة ومُدنَّسة؟ انسحبت من الكلية وبقيت في المنزل أبحث عما يناسب ميولي الصعبة. فأنا لا أقبل أن أتبع الآخرين في أمرٍ ما لم أقتنع به. متحررة لكنني أعرفُ الله جيدًا, أجده حولي في كل مكان. ثائرة على كل الثوابت, ولدي أسئلة أفتش عن إجاباتها بين الكتب. في عالم (الفيسبوك), تجدني أخط سطور التوعد على كل حوائط الظلم و التخلف والفساد. أحمل على عاتقي قضايا الأمة و جرحنا العربي الذي ينزف في شوراعنا دون توقف. هه, المضحك أنني بدأت ثورتي بأبي. كان يمارس الفساد في عمله ويرتشي, وقفت في وجهه حتى يكفَّ عن أفعاله. حبسني في غرفتي؛ لكنني لم أتوقف, جمعتُ أدلتي ضده, و قدّمت بلاغًا عن جرائمه. ضربني يومها وكدت أموت؛ فهربت مختبئةً في سكنٍ للطالبات, عملت فيه كمشرفة بعد ذلك. عرَّفتني إحداهن على أخيها الذي كان يتردد على السكن دائماً. استطاع أن يستغل ضعفي؛ فأغرقني بالحب, و انقض على شرفي في لحظة تحول فيها إلى أسدٍ مفترس. عندها أدركتُ أنني وقعتُ في هوةِ ضياعٍ سحيقة؛ فخرجت هائمة على وجهي, أسيرُ نحو المجهول, و أبكي ما كان وما سيكون... «
***
أنا خُلِقتُ لأتشرد. هل تذكر أحلام يقظتي التي كنتُ أخبرك عنها؟ كانت تدور حول الحياة والسكينة والحب؛ وإلا لماذا نحلم إذا كنا نمتلك كل شيء؟
»مرةً و حبكَ يعتلي غيمة, حلمتُ أنني رملٌ
لا يرتوي
إلا بكْ... «
أخوك الأكبر يستحق الموت؛ فقد أماتني حين حرمني منك, كما أمات عصفورتك. بالمناسبة, يمكنني إخبارك لماذا أحبت العصفورة قفص السعف الضيق:أقصى ما يتمناه أي كائن منكسر هو الأمان.
حين نعتكَ أخوك بالزاني, ارتبكت و أغمضتَ عينيكَ في ندم.
كنا في إجازة نهاية الأسبوع, قررتَ عدم العودة إلى قريتك والبقاء معي, طلبنا البيتزا, و اخترنا فيلمًا نتابعه. رن الجرس, لم نكُ ننتظر أحدًا سوى عامل توصيل الطلبات. فتحتَ الباب؛ لتتفاجئ بأخيك يأخذك في الأحضان؛ دفعك بقوة حين انتبه لوجودي, و احمرت عيناه غضبًا. لأول مرة ألمحُ في وجهك الخوف والندم. كنتَ مصدوماً, تستقبل شتائمه واتهاماته دون أن تدافع عن نفسك.
صرخَ في وجهك: »اطردْ هذه السافلة حالاً«. بقيتُ صامتة أسمعك و أنت تتوسل إليه أن يهدأ.
غادرتَ الشقةَ معه, ولم تعد.
***
الآن أنا أبتعد...
أحمد, لا تخف لن ألتفت إلى الوراء؛ كي لا أرى ابنة عمك القروية تقف إلى جانبك. كي لا أراها تحتل مملكتي, تغير ترتيب الأثاث، تتخلص من كتبي و تضع مكانها علب الصندل والسدر، مجمر البخور وعدة الخياطة. هل اعتقدت أنني لم أتوقع هذه النهاية؟ كنتُ أختنقُ حزنًا في كل لحظةٍ جميلة تجمعنا, لكنني أختبيء خلف السعادة؛ جميلٌ أن السعادة خدعة سهلة, كلما اشتدَّ علينا الحزن مارسناها.
كيف كانت النهاية؟ موجعة كالخيانة، غامضةٌ مثلما موْت. كان قد مضى أسبوعين منذ أن خرجتَ مع أخوك. خفتُ عليكَ, و راودتني هواجس كثيرة. تخيلتُ أنك تتعذب في القرية, أبوك يقيدك في جذع النخلة, يجلدُ ظهرك؛ حتى يتقاطر دمًا, و يوم طُرِقَ الباب, ركضتُ لأفتحه؛ علمتُ أنك الطارق, شممت رائحتك. فتحتُ الباب فَرِحةً, لكنني اندهشت. كنتَ أنت ولم تكُ أنت, يا إلهي! ملامحك تغيرت, لحيتك أصبحت طويلة و شعثاء, في وجهك سكينة, وحزن لا أفهمه.
قلتَ لي: »زوجتي تنتظرني أسفل العمارة, غادري«. بقيتُ في مكاني, جَذبتني من ساعدي بقوة إلى الخارج، حدّقتُ في عينيك أبحثُ عني, سألتك عن أشياء كثيرة, لكنك كنتَ جامدًا كصنم.
أرحلُ الآن و أتساءل, أين يمكنني دفن الحياة التي قضيتها معك؟ الذاكرة ليست مكانا آمنا. أو لا يهم؛ فها أنا أغادر، خطوةً بعد خطوة. حين أغيب عن أفقك، لن أرمي بنفسي من إحدى شرف العمارة، و لن أعود إلى منزل أبي منكسرة, بل سأجلس منزوية على الرصيف أبكي, وقد يحل الظلام وتمطر السماء فتبدأ رحلة جديدة؛ لأن كل الأشياء مؤقتة؟
تمت
الكاتب : حمد المخيني
الكاتب : حمد المخيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق