قررت قراءة الكتاب بعدما لاحظت انتشار اسم
ريتشارد دوكينز كعالم وفيلسوف ملحد معاصر بنى وجهته في الإلحاد بناء على تجربته
العلمية والفكرية ، الدافع من قراءة الكتاب كان لرغبتي في أن يستثيرني دوكينز
بكتابه لمزيد من البحث عن إجابات أو ردود لأي أسئلة او عجز أقف فيه أمام ما يطرح .
لكن تجربتي مع الكتاب لم تكن بمستوى الطموح ، فالكتاب مزيج من الانطباعات
والقناعات مع شيء من الجدل العلمي الغير محكم الطرح . لكن مع ذلك يظل أن الكتاب
فتح بعض الآفاق للبحث .
الكتاب في عشرة فصول ، الفصل الأول : عنونه
بــ" غير مؤمن بعمق " ، تحدث في جزءه الأول عن وجود ثلاثة أنواع من
الإله ، الأول : الإله الذي يعتقد به المؤمن بوجود خالق ذكي خلق الكون ويشرف عليه
، ينظر لأعمال الناس ويحاسبهم عليها . وهناك أيضا الربوبيون الذين يؤمنون بوجود
خالق ذكي ولكن نشاطاته كانت محدودة بصناعة وضبط قوانيين الكون ، ولا يتدخل بعدها
في أي شيء . وهناك ايضا " الطبيعيون " الذين لا يؤمنون بوجود إله غيبي
والإله بالنسبة لهم هي الطبيعة والكون والقوانيين التي تعمل بها "
تحدث في هذا الجزء أيضا عن بعض كبار العلماء ــ
منهم اينشتاين ــ على أنهم لا يؤمنون بوجود الإله على عكس ما أشيع عنهم ، في هذا
الجزء كرس جهده ووقته لأجل أن يثبت خطأ من يقول بأن هؤلاء العلماء يؤمنون بوجود
إله ، وأراد دوكنز بهذا الجزء ــ كما قال ــ : " حتى لا يعتقد المؤمنون بأن
لهم قوة في إيمان مثل هؤلاء العلماء" . . في هذا الجزء رأيت تناقض لــ دوكينز
وهو يحاول جعل بعض العلماء على أنهم لا يؤمنون بإله ، فمثلا : في حديثه عن اينشتاين
، بعدما أشار ووضح أن اينشتاين لا يؤمن بوجود الإله الذي يؤمن به الناس ، قال في
نهاية الجزء (( دعني ألخص دين اينشتاين ببعض ما قاله هو نفسه " الاحساس بأن
خلف ما نعرفه ونحس به يوجد شيء ما لا نستطيع إدراكه وهذا الشيء يمسنا بجماله وسموه
بطريقة غير مباشرة وبشكل يكاد يكون غير محسوس ، هذا شعور ديني ، وأنا بهذا المعنى
متدين )) ، يقول بعدها دوكينز تعليقا على ما قاله اينشتاين " حسنا .. بهذا
المعنى فأنا متدين أيضا مع التحفظ على عبارة "لايمكننا إداراكه " لكني
لا أفضل نعت نفسي بالمتدين بأي شكل من الأشكال لأن ذلك سيؤدي لسوء فهم
!! "
بقية الفصل الأول ، عبارة عن تفريغ لما يتصوره
دوكنز عن الدين ، تحدث عن حروب الكاثوليك والبروتستانت ، تحدث عن الحروب المذهبية
بين الشيعة والسنة ، تحدث عن حوادث التطهير العرقي والمذهبي التي تمت في العالم ،
تحدث عن أحداث 11 سبتمبر ودوافعها الدينية ، تحدث عن نظرة الأديان الدينية للمرأة
، تحدث عن كون الدين أداة لتحقيق المكاسب الإجتماعية والسياسية ، وذكر في سبيل ذلك
مواقف وأحداث حدثت عن بعض الرموز الدينية والاجتماعية . ما أعترض عليه فيما سرده دوكنز من أحداث تحت
حجة أن الدين هو كما ذكره دوكينز من احداث ، أن دوكينز لم يفرق بين الدين وبين
الممارسة والإستخدام . الممارسات لا تعني دائما الدين ، حتى ولو كانت بأسمه أو تحت
ظله وهو ما كان يجب على دوكنز أن يعرفه .
الفصل الثاني المعنون بــ(فرضية الإله ) ،
الفصل الثاني باختصار ، تكلم فيه عن الإلة
بمختلف تصوراته عند كل الأطياف على أنه هو الإلة الذي يخاطبه في كتابه ، بمعنى أن
إله اليهودية والبوذية والمسيحية والإسلام ، والآلهة اليونانية ، هو الإله الذي
يحاول دوكنز عده في منزلة الوهم . واشتغل في سبيل ذلك بذكر توصيفات الإلة عند هذه
الديانات ، تلك التوصيفات جاءت كلها مقتضبة وبعضها عمومية وبعضها كما هي ( كآلهة
الإغريق والبوذية ) . عدد كبير من الآلهه التي ذكرها ، نحن نكفر بها
وبوجودها وبصفاتها كآلهة الاغريقي وآلهة الهندوس وآلهه أخرى كثر . وسبيل دوكينز في
محاولة إقناع القارئ وهم وتناقضات شخص الإله ( الذي لم يحدده من بين كل ما ذكره )
وانما اقتضبه ورسم صورته من مختلف الاثنيات والإعتقادات لا يجعل من الإله في منزلة
الوهم .
أما عن الفصل الثالث فقد عنونه بــ( الدليل على وجود الله ) :هذا الفصل هو ما كنت ابحث عنه ، ففيه توقعت أن
يذكر دوكينز آراء الفلاسفة وحججهم والرد على حججهم بما يعتقده مبطلا لها . ابتدأ
بحجج الفيلسوف توماس الأكويني ، وهي الحجج الخمسة المشهورة عنه ( السبب المسبب ،
المحرك الأول، العلة الكونية ، دليل التدرج ، الحجة الغائية أو حجة التصميم ) .
حجة السببية ( السبب المسبب ) ، يقول فيها
الأكويني باختصار أن لا شي يسبب نفسه بنفسه ، لكل فعل فعل مسبق ، فإذا بحثنا عن كل
الموجودات بناء على هذه الحجة وجدنا أن الموجودات بحاجة لسبب أول أوجدها كلها ،
وهذا الفاعل الأول وجب أن يكون متفردا ومتميزا ، وهو ما يجب أن يكون الله .
الحجة الثانية : حجة المحرك الأول ، فيها يقول
الأكويني أن لا شيء يتحرك إلا بوجود من يحركه ، هذا يؤدي بالضرورة لوجود أحد ما
بدأ الحركة الاولى ، وهو ما يفضي إلى أن يوجد شيء ما سابق عن الحركة الاولى ، وهو
" الله " .
عن حجة التدرج : فيها يقول الاكويني أنه من
الملاحظ اختلاف الأشياء حولنا ، هناك درجات متفاوته للأشياء مثل الطيبة والكمال ،
ونحن لا نقدر درجتها إلا بمقارنتها بالحد الأعلى الممكن لها . وأعلى حد ممكن لها
لا يمكن أن يكون فينا ، لذلك لا بد من وجود ما هو أعلى منا ، وهو الله
المطلق.
حجة الحجة الغائية باختصار يقول فيها الأكويني
أن الأشياء في العالم تمشي وفق نظام وتصميم ذكي ، ولا يمكن لهذا الاتساع والدقة
إلا أن يكون لها مصمم أعظم من التصميم نفسه ، وهذا المصمم هو الإله .
هذه الحجج قال بها الفيلسوف الأكويني وفلاسفة آخرين
( ولو بصيغ مختلفة ) ، ريتشارد دوكنز ذكر حجج توماس الأكويني ثم علق عليها كالآتي
:
حجة السببية ، وحجة المحرك الأول ، وحجة العلة
الكونية : علق عليها بتعليق مقتضب مفاده " أن التراجع الزمني اللانهائي عبثي
ومضلل ، وأن إدخال الإله لحل موضوع التراجع اللآنهائي هو أمر مضلل وعبثي " ،
هو يقول بأن أغلب أشكال التراجع تصل لمرحلة من النهاية الطبيعية ، أي أن كل شيء
ينتهي في حدود الطبيعة ، وذكر مثال أن الذهب حينما يتم تقطيعه لأجزاء صغيرة ،
يستمر هذا التقطيع إلى حد نهائي ( الحد الأصغر من الذهب والتي يكون فيها عبارة عن
ذرة مكونة من 79 بروتون ، وأكثر بقليل من
النيوترونات وبحضور حشد من الإلكترونات " ، عندما تجزء الذرة لأبعد من هذا ،
لا يعود الذهب ذهبا وانما يتحول لشيء آخر .
رد دوكينز هذا وشكل التراجع في مثال الذهب يختلف
عن شكل التراجع الذي وضعه الاكويني في حججه . التراجع في مثال الذهب لا يجيب عن
سؤال ( ما سبب ) ، بل يجيب عن سؤال الماهية ( ماذا يكون ) . الأكويني يقول ويسأل
عن الذي تسبب في وجود الذهب وليس ما هو الذهب . فمثال الذهب خارج عن إطاره هنا في
هذه الحجة . دوكينز وآخرون قالوا بأن كل
ما هو موجود في الكون سبب وجوده الانفجار العظيم الذي نشأ عن الجسيم اللامتناهي
الطاقة . سؤال الاكويني لازال مستمرا ( من الذي تسبب في وجود الجسيم اللامتناهي
الطاقة ، ومن سبب له حركته الأولى ) . . رد دوكينز على الحجج الثلاث للإكويني غير
مقنع .
بالنسبة لرد دوكيز على الحجة الرابعة التي قال
بها الاكويني ( حجة التدرج ) ، لم يكن هناك رد بقدر ما كان هنا سخرية وتبجح من
دوكينز . دوكينز رد على هذه الحجة بأن قال (( ما هذا الدليل ؟ من الممكن أن نقول
أن الناس مختلفين في روائحهم وإمكانياتهم بالمقارنة فقط بمرجعية للحد الأعلى
الممكن للروائح النتنة ، ولذلك يجب أن يوجد شيء رائحته لا تضاهى بالنتانة وندعوه
الله ، وباستطاعتك استبدال مواصفات المقارنة بما تشاء ))
سخريته هذه لا تجيب عن سؤال حجة التدرج ولا تنقص
من قيمتها ، المطلوب من دوكينز كاعتراض على الحجة أن يبطل حاجة الدرجات المختلفة
من الصفات إلى حد أعلى مطلق . الأمر الثاني : حتى سخريته تبطل إذا ما استخدمنا
" المنطقية الثنائية " التي تقول بأنه لا يوجد طيب وخبيث ( يوجد طيب فقط
)، لا يوجد خير وشر ( يوجد خير فقط ) ، لا يوجد نور وظلام ( يوجد النور فقط ) .
الشر حالة من حالات انعدام الخير فقط وهو ليس وجودا مستقلا بذاته . والنور مثلا ،
لا نقول بأن الظلام عكس النور أو قوى معاكسة للنور ، الظلام فقط حالة لغياب النور
، يوجد فقط نور ساطع ونور أقل من السطوع وتوجد الدرجة الأقل من النور وهي ( الظلام
) . فحتى سخرية دوكينز تكون هنا باطلة ، إذ لا يتطلب وجود حد أعلى للنتانة او
الخبث او الشر .
بالنسبة للحجة الغائية التي قال بها الاكويني
وهي الحجة الخامسة ، سأرجئ عرض رده والنقاش حولها لمقال قادم ، كونها طويلة ويدخل
فيها الجدل بين دعاة نظرية التصميم ونظرية الصدفة ، ويدخل فيها نظرية التطور
والانفجار العظيم وقليل من نظرية الاكوان المتعددة .
محمد الهنائي